الرئيسية » مقالات الطلبة » زمن النكران

زمن النكران

سيف الدين الزاملي
أخذوا على أنفسهم وعداً أن يكملوا دراستهم لخدمة مجتمعهم، الذي هو بحاجة إليهم ، و بعد مرور السنين يجلس ثلاثتهم على مقاعد إسمنتية ،مغروسة على قارعة الطريق كأنها أوتاد يتشبث بها الوطن المتداعي قهراً تحت أنامل الطغاة المتحكمين في البلاد والعباد،
لا يبدوا على احدهم ما في داخله للعيان، كأنهم غرقى في متاهات جارفة من التفكير، ينتصرون في مناظرات جدلية ويهزمون في اخرى .. يخوضون حروباً تخيلتها عقولهم فيحلقون مع الأبطال المسجلين في كتب التآريخ بحروف من ذهب ،ليعيدوا الحق المسلوب ، يثورون مع غاندي إذا ثار ليحارب الظلم والاستبداد والعبودية، ويقفون خلف الفاروق بسيفه بالعدل والمساواة بين الخلق على اختلاف مشاربهم ، ويصطفون أمام سهام الظلم في طف الحسين ، ولا يموتون ، ثم يفيقون من نشوة انتصاراتهم الوهمية على صوت أم كلثوم بصوتها العذب (أعطني حريتي أطلق يدي… إنني أعطيت ما استبقيت شيئاً) ،ليغرقوا مرة أخرى في أنفسهم وهمومها التي يخيم عليها خريف اسود يقتل الجمال على قمم الأشجار الشامخات يعريها من الأمل المنثور على أغصانها فتمسي وحيدة لا عزاء لها إلا الهيام بقادم الأيام.
الأول منهم مهندس حاسوب تخرج بامتياز ،وثانيهم تخرج من كلية الإدارة والاقتصاد ، أما الثالث فعاشق للنحو والصرف تخرج من كلية الآداب،اجتمعوا في ظل منارة الكتب والقراطيس والأوراق، شيدوا تحت سمائها أمنيات ،لم يترددوا في طرق الأبواب طلباً للعلم والسعي في الطرقات المعرفة بلا ملل ولا كلل ،خطواتهم ثابتة في سبيل الوصول إلى أهدافهم النبيلة وتحقيق غاياتهم الرائدة.
لكنها أيام ما أعجل انقضائها.. !!!، يسلمهم القدر بعدها إلى واقع مأساوي مظلم لم يتوقعوه حتى في أسوأ كوابيس الليالي المرعبة ، واقع يلقي بهم في الشوارع والطرقات يعانون البطالة والضياع، لا عزاء لهم إلا البكاء على أطلال الماضي المندثر ، وتبذير الطاقات في تضييع الوقت ، يغولون في الشكوى والتذمر يتيهون في أعماق الوحدة والعزلة ، يبحثون عن مخرج ينتهي بقبس من نور المستقبل فلا شيء منه ولا أمل إليه.
في زمن النكران لا تتسع لهم الأروقة ولا تفتح لهم الميادين ويصدونهم بالتأجيل والتحقير والتقزيم ، فلا يقدرون حق قدرهم ، ولا يمنحون حقهم ، توصد الأبواب أمام مبادراتهم ، فتنفذ هممهم وتفترس الأعذار طموحاتهم وتذبل عزائمهم ، ويتسرب العلم من عقولهم وتظهر الانحرافات الفكرية والخلقية في سلوكهم ، فيرتفع شأن الموت في نفوسهم الشابة وتحتقر الحياة في عيونهم الفتية ويسموا وقود فتنة قد تحرقهم وتحرق الوطن.

اترك رد